بأبي انت وأمي يا رسول الله


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

بأبي انت وأمي يا رسول الله
بأبي انت وأمي يا رسول الله
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الكتم في سورة البقرة وأثره في الأمانة

اذهب الى الأسفل

مطالع الكتم في سورة البقرة وأثره في الأمانة

مُساهمة من طرف مسلم 1/8/2012, 04:48


الكتم في سورة البقرة وأثره في الأمانة

أ : عبدالفتاح آدم المقدشي

إن الحمد لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهد اللهُ فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وآله وصحْبه وسلَّم.

أمَّا بعدُ:

فهذه جملةٌ من الآيات من سورة البقرة تتحدَّث عن الكتم في سورة البقرة، ولها أثرٌ ظاهرٌ بالأمانة، أحببنا أن نُلقيَ الضوءَ عليها على حسب استطاعتنا، فما كان فيها من صوابٍ فمن الله، وما كان فيها من خطأ أو سهوٍ أو نسيانٍ، فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله براءٌ منها.

الكتم في سورة البقرة وأثره في الأمانة:

الآية الأولى:

• قال - تعالى -: ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33]، وهو كما قال - تعالى -: ﴿ وَأَسرُّوا قَوْلَكُمْ أَو اجْهَرُوا به ﴾ [الملك: 13].

• وقال - تعالى -: ﴿ وَإنْ تَجْهَرْ بالْقَوْل فَإنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7].

• وقال - تعالى -: ﴿ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقيبًا ﴾ [النساء: 1].

وهذا مما يوجبُ على العبد: الخوفَ من الله، ومراقبتَه، وتعظيمَه، وامتثالَ أوامره، واجتنابَ نواهيه، والاستحياءَ منه، كما يوجب على المرء التخلقَ بخُلق الأمانة، وعدمَ كتمان حقوق الله وحقوق عباده.

فعن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لأعلمنَّ أقوامًا من أُمتي، يأتونَ يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تِهامَة بيضًا، فيَجعلها الله - عز وجل - هباءً منثورًا))، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا، ألاَّ نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أَما إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خَلَوا بمحارم الله، انتَهكوها))، رواه ابن ماجه (4245)، وصحَّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه".

"وصف هؤلاء المذكورين في حديث ثوبانَ بأنهم "ينتهكون" محارمَ الله، وهو وصفٌ يدلُّ على استحلالهم لذلك، أو مبالغتهم فيها في هذه الحال، وأمْنهم من مكْر الله وعقوبته، وعدم مبالاتهم باطِّلاعه عليهم.

فلذا استحقُّوا العقوبةَ بحبوط أعمالهم، وليس الوعيدُ على مجرَّد الفعل لتلك المعصية، ولعله لذلك سأل ثوبانُ - رضي الله عنه - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَلِّي حالَ أولئك، وأن يصفَهم؛ خشيةَ أن يكونوا منهم - وهم لا يدرون - ومثل هذا إنما هو طلبٌ لمعرفة حال قلوب أولئك العصاة، وليس لمعرفة أفعالهم مجرَّدة.

فكيف بمَن يراقبُه الله العظيم في السر والعلن، والذي السرُّ عنده علانيةٌ, ويعلمُ ما في الضمير؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوسُ به نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْه منْ حَبْل الْوَريد ﴾ [ق: 16]؟!

كيف له أن يكتمَ الحقَّ، أو يُلبسَ الحقَّ بالباطل، أو يَكيد للناس ويُبيِّتهم، أو يكتم حقوقَ الناس كما سيأتي بيانه قريبًا في محله؟

بل كلمةُ الكفر نفسُها التغطيةُ والسترُ لغةً، كما يقال: المزارعون كفَّار لتغطيتهم البذورَ بالتراب، وكذلك الكافرُ يغطي الإيمانَ بتكذيبه وجَحْده؛ لذلك لا يُرجَى منهم أمانةٌ أو نصحٌ أبدًا بعد تضييعهم أمانةَ الله؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].

وقال - تعالى -: ﴿ يَعْرفُونَ نعْمَتَ اللَّه ثُمَّ يُنْكرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافرُونَ ﴾ [النحل: 83].

وتجدُ في هذه السورة أن الله - سبحانه - يأتي بنماذجَ كثيرةٍ من كفران النعم من بني إسرائيل؛ لذلك تكرَّرت هذه الآية: ﴿ يَا بَني إسْرَائيلَ اذْكُرُوا نعْمَتيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمينَ ﴾ [البقرة: 47،122]؛ وذلك لتكذيبهم بنعم الله العظيمة عليهم، وأن الله فضَّلهم على العالمين في وقتهم.

بل أمةُ محمدٍ أفضلُ على الإطلاق من أمة بني إسرائيل؛ إذ ليس لهم أمةٌ سابقةٌ بالخيرات؛ كما قال - تعالى -: ﴿ منْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصدَةٌ وَكَثيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 66]، وقال الله - تعالى - في حق أمة محمدٍ: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنَا منْ عبَادنَا فَمنْهُمْ ظَالمٌ لنَفْسه وَمنْهُمْ مُقْتَصدٌ وَمنْهُمْ سَابقٌ بالْخَيْرَات بإذْن اللَّه ذَلكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ ﴾ [فاطر: 32].

والآياتُ التي أمَر الله - سبحانه - بالأمانة كثيرةٌ، منها آياتُ الإيمان عمومًا؛ كما جاء في أول هذه السورة؛ قال - تعالى -: ﴿ الم * ذَلكَ الْكتَابُ لَا رَيْبَ فيه هُدًى للْمُتَّقينَ ﴾ [البقرة: 1 - 2] إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ ﴾ [البقرة: 5].

وذكر مثلَ ذلك في غيرها من المواقع في هذه السورة وغيرها من السور.

والآياتُ التي نَهَت عن الخيانة كذلك كثيرةٌ، منها آيات الإيمان الآنفة الذِّكر، وذكر الله وعدَّد من صفات الكفَّار والمنافقين، ومساوئ أفعالهم وأخلاقهم.

وقد أطال الله في شرح صفات المنافقين؛ لشدَّة أذيَّتهم وخيانتهم للمسلمين؛ وذلك لأنهم قومُ بُهْتٍ، يظنُّون أنهم يخادعون الله لجهْلهم، ولكنهم في الحقيقة يخادعونَ أنفسَهم، ويجرُّونها إلى الهلاك والدمار؛ إن عاجلاً، أو آجلاً.

الآية الثانية:

• قوله - تعالى -: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 41 - 42].

فهنا قد ذكَر الله خَصلَتين من الكتمان، وهما:

تلبيسُ بني إسرائيلَ الحقَّ بالباطل، وكتْم الحق وهم يعلمون، وهي صفةٌ ذميمةٌ جدًّا - سنشرحُها في الآية الثالثة التالية - والسببُ الرئيسي الظاهرُ في ذلك، هو فقْدُهم الإيمانَ الذي هو أعظمُ ما يوجب الأمانةَ؛ لذلك أمرَهم اللهُ بالإيمان بما أنزَله مصدقَا لما معهم.

وتنطبقُ الآيةُ كذلك على كلِّ مَن اتَّصف بصفاتهم من المسلمين، كما هي قاعدة التفسير: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"، وأيضًا كلُّ آية نزَلت في الكفَّار تَجُرُّ في ذيلها عُصاة المسلمين، كما هو معروف عند المفسرين.

الآية الثالثة:

• وقال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ مُخْرجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72].

لو عَمِل إنسانٌ سريرةً في غاية الخفاء، ألبسها اللهُ ردَاءها، ويُفهَم من ذلك قولُه - تعالى - هنا ﴿ وَاللَّهُ مُخْرجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72].

أفاده الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في شرحه أضواء البيان: "وعامة العلماء على أن القاتلَ لا يَرثُ؛ سواء كان خطأً، أو عمدًا، وسواء في الدِّيَة، أو المال، ولمالكٍ فيه تفصيلٌ، وقال: يَرثُ القاتلُ خطأً من الدِّيَة، ولا يَرثُ من المال، وهو عكسُ قول الجمهور، وشذَّت طائفةٌ، وقالت: يَرِث من الدِّيَة، ويَرِث من المال.

وأخذ مالك من هذه الآية حكمًا دون عامة العلماء، بقول المقتول: دمي عند فلانٍ؛ لأن هذا القتيلَ لما حَيِيَ، وقال: قتلني فلان، عَمِلوا بقوله، وأن القتيلَ إذا أُدرك وفيه رمقٌ، وقال: قتلني فلانٌ، يُؤخَذ بقوله للآية، ويرى الإمام مالك ذلك لوثًا يحلفُ معه أيمان القسامة، ويستحق به الدم أو الدِّية على التفصيل، ما تُستحق به الدِّيَة من عمد أو خطأ, وعارضَه الجمهور بأنه لا يؤخذ بقوله إذا قال أحدٌ: إن لي مالاً عند فلان، لا يؤخذ بقوله، فكيف يؤخَذ بقول القتيل في الدم المعصوم، فأجاب مالك بأن القتيلَ مقبل على الآخرة، ومُدبر من الدنيا؛ ولذلك فدواعي الكذب بعيدة جدًّا، وغالب الظن أن يُخبر بالواقع.

وأجاب الجمهور بأن هذه القصة لا تقاس بغيرها؛ إذ كان ذلك قتيل أحياه الله معجزةً، وهذا مستند إلى دليلٍ، وليس كقتيلٍ آخرَ، وأجابه ابن العربي في أحكامه بأن المعجزةَ في إحياء القتيل، أما كلام القتيل، فهو كسائر كلام الناس، يجوز أن يكون حقًّا، أو يكون كذبًا"؛ ا.هـ؛ بتصرُّفٍ يسير من شرح الإمام الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان بصوته.

ثم كان شقاوة بني إسرائيل - بعد معاينتهم هذه المعجزةَ الباهرةَ - أن قسَت قلوبهم، فلا يدخل فيها خير كالحجارة الصُّلبة، بل أشد من ذلك؛ إذ قد تَلين الحجارة، فينفجر منها الماء, وإن منها لما يَهبط من خشية الله، كما ذكر الله في الآية، فنعوذ بالله من الخِذْلان، وقسوة القلوب.

واعلم أن الذين يُبيِّتون الناسَ بغير حقٍّ، فسيُبطل الله كيدَهم، ويَفضَحهم في الدنيا والآخرة، خصوصًا لمن توكَّل على الله، وفوَّض أمره إلى الله؛ فإن الله سيحميه وسيَقيه سيِّئات مكر الماكرين؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 44 - 45].

• وقال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بأَهْله ﴾ [فاطر: 43].

• وقال - تعالى -: ﴿ وَكَانَ في الْمَدينَة تسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسدُونَ في الْأَرْض وَلَا يُصْلحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا باللَّه لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لوَليّه مَا شَهدْنَا مَهْلكَ أَهْله وَإنَّا لَصَادقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ مَكْرهمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعينَ * فَتلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاويَةً بمَا ظَلَمُوا إنَّ في ذَلكَ لَآيَةً لقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾[النمل: 48 - 53].

الآية الرابعة:

• وقال - تعالى -: ﴿ إنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا منَ الْبَيّنَات وَالْهُدَى منْ بَعْد مَا بَيَّنَّاهُ للنَّاس في الْكتَاب أُولَئكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

وهذا بالنسبة للعلماء الذين يكتمون العلمَ بعد أن علَّمهم الله لأغراضٍ في نفوسهم؛ كنَيل شرفٍ عند سلطانٍ جائرٍ، أو لحظوظٍ دنيويةٍ أخرى، كما سيأتي بيانه في الآية التالية.

وقد سأل رجل مبتدع من الخوارج ابن عباس - رضي الله عنه - سؤالاً في قتْل الصبيان في الحروب، فأجاب عليه ما سأله، وكان في ضمن جوابه: "لولا هذه الآية في سورة البقرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ - ما أجابه؛ وذلك لبدعته, والقصة في صحيح مسلم - رحمه الله.

وقد أخَذ الله العهد والميثاق على الذين أُوتوا الكتابَ، أن يُبيِّنوا الحقَّ الذي أنزَله الله، ولا يكتموه، فقال - تعالى-: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [آل عمران: 187].

وقال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].



فمتى يعلم الناس الحقَّ إذا كَتَمه العالمُ، وجرى العامي وراءَ لُقمة العيش وانشغَل بها كما يقولون؟!

فالعالم الذي لا ينطق بالحق شيطانٌ أخرسُ, كما أن الذي ينطقُ بالباطل شيطانٌ ناطقٌ, والذي يلبس بين الحق والباطل شيطانٌ مُلبِّس, كالذين يجعلونَ الحقَّ فتنةً، والفتنةَ حقًّا, ويَخلطون بين المفاهيم؛ حتى يقعَ الناس في حَيْرة من أمرهم.

الآية الخامسة:

وقال - تعالى -: ﴿ إنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ منَ الْكتَاب وَيَشْتَرُونَ به ثَمَنًا قَليلًا ﴾ [البقرة: 174].

تُشبه هذه الآية التي قبلها، إلا أنها صرَّحت أن طبيعة كثيرٍ ممن يكتمون العلم، شراءُ آيات الله بثمنٍ قليل, أو ربما اشتَروه بجاهٍ أو صيتٍ يحصلون عليه, أو ربما فعلوا ذلك؛ دفاعًا لأذية سلطانٍ، أو فلان، أو علان.

فقد ذكر الله في هذه الآية - وكذلك في آية آل عمران - أنهم معاقبون بأنهم يأكلون في بطونهم نارًا، وأن الله لا يكلمهم، ولا ينظرُ إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، وأن لهم عذابًا أليمًا، والعياذ بالله.

بل إنهم يحملون أوزارَهم وأوزارَ مَن أَضلُّوهم عن طريق الحق؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا للَّذينَ آمَنُوا اتَّبعُوا سَبيلَنَا وَلْنَحْملْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بحَاملينَ منْ خَطَايَاهُمْ منْ شَيْءٍ إنَّهُمْ لَكَاذبُونَ * وَلَيَحْملُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقيَامَة عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [العنكبوت: 12 - 13].

والله المستعان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.

الآية السادسة:

وقال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَحلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ في أَرْحَامهنَّ ﴾ [البقرة: 228].

وكَّل الله - سبحانه - النساءَ في تبرئة أرحامهنَّ، والحفاظ على أنساب المسلمين، بإيمانهم بالله واليوم الآخر؛ مما يدلُّ على أن الأمانةَ ضرورة من ضروريات المسلمين في شرائعهم.



وهذه من نعم الله علينا، أن منَّ الله علينا بهذا الدين العظيم، الذي جعل الناسَ يراعون شرائعَه بمجرد إيمانهم وتقواهم، عكس أصحاب القوانين الوضعية، التي تستخدمُ مراقبة الناس بالشرطة، وتحقيقات جنائية مستعصية، وإذا سَنَحت لهم فرصةٌ، وغابت الشُّرَط، أتوا الجرائمَ بصورةٍ رهيبةٍ؛ لهذا من واضحات الأمور أن تكثرَ فيهم الجرائمُ أضعافَ أضعاف ما يَحدث في دول الإسلام لهذا السبب، كما هو مُشاهَد ومعلوم.

الآية السابعة:

قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].

وهنا قد جعل الله كتمَ الشهادات مَن جملة خيانة الأمانات؛ إذ تضيعُ بسببه الحقوق، وينتشر الظلم والإفسادُ في المعمورة، بل يأثَم الكاتم، ويستحقُّ من الله العقوبةَ كما هو مبيَّن في الآية.

وقد نَسَب الله الإثمَ للقلب؛ لأنه محلُّ الكتم، ولأجل التنفير من حمْل ذلك الظلم الشنيع في القلب ودفْنه فيه, وإنما المقصود إثمُ كاتم الشهادة بكُليَّته، وهو من باب ذِكر الجزء وإرادة الكل، والله أعلم.

آيات أمرت بالأمانة:

من ضمن الآيات التي أمَرت بالأمانة: آيات الإيمان عمومًا في هذه السورة - كما أسلفنا - وقد قال - تعالى -: ﴿ إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْملْنَهَا وَأَشْفَقْنَ منْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].

ومقصود الأمانة في الآية: التكاليفُ التي وضَعها الله في عاتق كل إنسانٍ؛ كما فسَّرها بذلك العلامة السعدي - رحمه الله - في تفسيره.

فمَن حافَظ على هذه الأمانة، فهو لما سواها أحفظُ، كما يُفهَم من قول ثاني خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر عن الصلاة - رضي الله عنه -: "فمَن ضيَّعها، فهو لما سواها أضيعُ".

وقد جعَل الله العلمَ سببًا لمعرفة حقوق الله، وحقوق الناس، والعدل.

وهذا حقًّا مما يجعلُ المرءَ يضعُ كلَّ شيءٍ في موضعه، وينجو بذلك من الظلم وظلماته في الدنيا والآخرة، وأعظمُ الظلم الشركُ بالله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

ثم يليه ظلم العباد، ثم ظلم العبد نفسَه بالمعاصي، فإذا نَجا المرءُ من الظلم والجهل، فَقَد استَكمَلت عليه شروطُ تحمُّل الأمانة, وكلما كان علم العبد بدينه وعدالتُه وتقواه عظيمًا، عظمت أمانتُه بذلك، ويكون من أفضل عباد الله المؤمنين.

وكلما كان علمُ المرء في دينه وعدالتُه ناقصة قليلة، قلَّت ونقصَت أمانتُه بذلك، وصار له من الفضل على حَسَب ذلك.

وإن صار ظلومًا جهولاً - كما في الآية - فهو فاقد العلم والعدالة، والتقوى والإيمان، ومُضيِّع للأمانات كلها، وخاسر في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله؛ كما هو حال الكفرة الذين هم شرُّ البريَّة، وشر الدواب عند الله الذين لا يعقلون، والله أعلم.

ومن جملة المحافظة على الأمانات: العملُ بالآيات التي حذَّرت من الخيانات - كما أسلفنا - فما أكثرَها في القرآن والحديث.

ومن الآيات التي أمَرت بالأمانة: قولُه - تعالى -: ﴿ فَإنْ أَمنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذي اؤْتُمنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّق اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283].

فقد جعَل الله - سبحانه - وصيةَ التقوى في هذه الآية - بعدَ أمرٍ بأداء الأمانات - سببًا للحفاظ على الأمانات، كما جعَل الإيمان بالله واليوم الآخر في الآية السابقة سببًا للحفاظ على الحقوق، بل جعل الله التقوى مغنيةً عن الكتابة لمن أَمِن بعضُهم بعضًا، بل قد يكون ذلك خيرًا من الكتابة إن أُمِن النسيان؛ لأنه قد يضيعُ الكتاب وقد يَحتَرق، وقد تأكله الأَرَضة، وقد يأخذه اللصوص، إلى غير ذلك من الأحوال، ولكن الذي يتَّقي ربَّه، لا بدَّ أن يؤدي حقَّ أخيه المسلم؛ راضيًا، مقتنعًا، ناصحًا له، ولا يكاد يكتمه أو ينتهزُ منه بأيِّ ظرف من الظروف؛ فعن حكيم بن حزامٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البيِّعان بالخيار ما لَم يتفرَّقا - أو قال : حتى يتفرَّقا - فإن صدَقا وبيَّنا، بورِك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكَذَبا، مُحِقت بركة بيعهما))؛ رواه البخاري رقْم (4/ 275)، ومسلم رقم (1532).

ومن الآيات كذلك قولُه - تعالى -: ﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إلَى أَهْلهَا ﴾ [النساء: 58].

فلا بدَّ إذًا من أداء الأمانات إلى أهلها، مهما كانت حالةُ المستأمن؛ لذلك جاء في الحديث: ((أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمَنك، ولا تَخُنْ مَن خانك)).

فمَن كَذَب على أحدٍ، فلا يجوز أن يكذب عليه, ومَن خَدَع أحدًا، فلا يجوز أن يخدَعه, ومَن فُجِر بامرأته، فلا يجوز أن يَفجُرَ بامرأة الفاجر - والعياذ بالله - وهكذا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسلم
مسلم
مدير
مدير

عدد الرسائل : 688
رقم العضوية : 3
تاريخ التسجيل : 07/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى